الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا} أَيْ قُلْ لَهُمْ أَيُّهَا الرَّسُولُ: أَخْبَرُونِي عَنْ حَالِكُمْ وَمَا يُمْكِنُكُمْ فِعْلُهُ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ فِي وَقْتِ مَبِيتِكُمْ فِي اللَّيْلِ، أَوْ وَقْتِ اشْتِغَالِكُمْ بِلَهْوِكُمْ وَلَعِبِكُمْ أَوْ أُمُورِ مَعَاشِكُمْ بِالنَّهَارِ، وَهُوَ لَا يَعْدُوهُمَا (كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَاتِ 4، 97، 98 مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ): {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} أَيَّ شَيْءٍ أَوْ أَيَّ نَوْعٍ يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ الْمُكَذِّبُونَ الْآنَ؟ أَعَذَابَ الدُّنْيَا أَمْ قِيَامَ السَّاعَةِ؟ أَيًّا مَا اسْتَعْجَلُوا فَهُوَ حَمَاقَةٌ وَجَهَالَةٌ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ مِنْكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ، أَيْ أَنَّ جُمْلَةَ الِاسْتِفْهَامِ جَوَابٌ لِلشَّرْطِ فِيمَا قَبْلَهَا، وَفِيهِ بَحْثٌ لِلنُّحَاةِ الَّذِينَ أَوْجَبُوا اقْتِرَانَ مِثْلِ هَذَا الْجَوَابِ بِالْفَاءِ وَخَالَفَهُمْ غَيْرُهُمْ لَا نَعْرِضُ لَهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} (6: 47) وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِهَا وَتَفْسِيرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي {أَرَأَيْتُمْ} و{أَرَأَيْتَكُمْ} مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى أَخْبِرُونِي عَنْ حَالِكُمْ وَمَا يَكُونُ مِنْ عَمَلِكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ ذَلِكَ؟.{أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} قَرَأَ الْجُمْهُورُ {ثُمَّ} بِالضَّمِّ وَهِيَ حَرْفُ عَطْفٍ يَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ وَالتَّأَخُّرِ وَالتَّرَاخِي، وَقُرِئَ بِالْفَتْحِ وَهُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ بِمَعْنَى هُنَالِكَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {أَثُمَّ} فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: أَهُنَالِكَ؟ وَلَيْسَ {ثُمَّ} هَاهُنَا الَّتِي تَأْتِي بِمَعْنَى الْعَطْفِ. انْتَهَى.وَلَمْ يَضْبُطْهَا بِفَتْحِ الثَّاءِ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَضْمُومَةَ تَأْتِي ظَرْفًا أَيْضًا وَهَذَا لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ، بَلْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الْمُغْنِي وَقَدْ نَقَلَهُ عَنْهُ: وَهَذَا وَهْمٌ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ ثُمَّ الْمَضْمُومَةُ الثَّاءِ بَالْمَفْتُوحَتِهَا. اهـ.وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهَذَا اسْتِفْهَامٌ آخَرُ مَعْطُوفٌ عَلَى فِعْلٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عُلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ مِنْ إِنْكَارِ اسْتِعْجَالِ مُجْرِمِيهِمْ بِالْعَذَابِ، كَمَا يُقَدَّرُ مِثْلُهُ بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: {أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (7: 63)؟ وَقَوْلِهِ: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} (23: 115) وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ، أَيَسْتَعْجِلُ بِالْعَذَابِ مُجْرِمُوكُمُ الَّذِينَ هُمْ أَحَقُّ بِالْخَوْفِ مِنْهُ بَدَلًا مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ وَعَنْكُمْ، ثُمَّ إِذَا وَقَعَ بِالْفِعْلِ آمَنْتُمْ بِهِ إِذْ لَا يَنْفَعُ الْإِيمَانُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ضَرُورِيًّا بِالْمُشَاهَدَةِ وَالْعِيَانِ، لَا تَصْدِيقًا لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ لَكُمْ حِينَئِذٍ مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا: {آلْآنَ} آمَنْتُمْ بِهِ اضْطِرَارًا {وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} تَكْذِيبًا بِهِ وَاسْتِكْبَارًا؟ وَقَرَأَ نَافِعٌ {الَانَ} بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى اللَّامِ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَالِاسْتِعْجَالُ يَتَضَمَّنُ الْمُبَالَغَةَ فِي التَّكْذِيبِ الْمُقَابِلِ لِلْإِيمَانِ، وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ إِيمَانُ فِرْعَوْنَ عِنْدَ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ إِيَّاهُ وَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (91).{ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} (قِيلَ) هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى (قِيلَ) الْمُقَدَّرَةِ قَبْلَ {آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} أَيْ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينِ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ بِالرِّسَالَةِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَسَادِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ: {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} الْخُلْدُ كَالْخُلُودِ مَصْدَرُ خَلَدَ الشَّيْءُ إِذَا بَقِيَ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَغَيَّرُ، وَخَلَدَ الشَّخْصُ فِي الْمَكَانِ إِذَا طَالَ مُكْثُهُ فِيهِ، لَا يَرْحَلُ وَلَا هُوَ بِصَدَدِ التَّحَوُّلِ عَنْهُ. وَظَاهِرُ إِضَافَةِ الْعَذَابِ إِلَى {الْخُلْدِ} أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَقَاءُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُؤْلِمَةٍ، وَيَحْتَمِلُ إِرَادَةَ الْعَذَابِ الْخَالِدِ الدَّائِمِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي الْأَكْثَرِ وَالْمُقَيَّدَةِ بِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ (6: 128) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَفِي سُورَةِ هُودٍ وَسَيَأْتِي.{هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أَيْ لَا تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَهُ بِاخْتِيَارِكُمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَالْعَزْمِ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ التَّحَوُّلِ عَنْهُ، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الظُّلْمِ؛ لِأَنَّهُ أَثَرٌ لَازِمٌ لِتَدْسِيَةِ النَّفْسِ وَإِفْسَادِهَا بِالظُّلْمِ، حَتَّى لَمْ تَعُدْ أَهْلًا لِجِوَارِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ عَذَابًا أُنُفًا مِنْ خَارِجِهَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تعالى: {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} (6: 139). اهـ.
.قال سيد قطب في الآيات السابقة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}هذا الدرس كله لمسات وجدانية متتابعة، تنتهي كلها إلى هدف واحد: مواجهة الفطرة البشرية بدلائل توحيد الله وصدق الرسول، واليقين باليوم الآخر. والعدل فيه.لمسات وجدانية تأخذ النفس من أقطارها، وتأخذ بها إلى أقطار الكون، في جولة واسعة شاملة. جولة من الأرض إلى السماء. ومن آفاق الكون إلى آفاق النفس. ومن ماضي القرون إلى الحاضر القريب. ومن الدنيا إلى الآخرة.. في سياق.. وفي الدرس الماضي لمسات من هذه، وجولات من هذه.. ولكنها في هذا الدرس أظهر.. فمن معرض الحشر، إلى مشاهد الكون، إلى ذات النفس، إلى التحدي بالقرآن، إلى التذكير بمصائر المكذبين من الماضين. ومن ثم لمحة عابرة من الحشر في مشهد جديد، إلى تخويف من المفاجأة بالعذاب في صورة موحية للحس بالتوجس، إلى تصوير علم الله الشامل الذي لا يند عنه شيء، إلى بعض آيات الله في الكون، إلى الإنذار بما ينتظر المفترين على الله يوم الحساب..إنها جملة من اللمسات العميقة الصادقة، لا تملك فطرة سليمة التلقي، صحيحة الاستجابة، ألا تستجيب لها، وألا تتذاوب الحواجز والموانع فيها دون هذا الفيض من المؤثرات المستمدة من الحقائق الواقعة، ومن فطرة الكون وفطرة النفس وطبائع الوجود..لقد كان الكفار صادقين في إحساسهم بخطر القرآن على صفوفهم وهم يتناهون عن الاستماع إليه خيفة أن يجرفهم تأثيره ويزلزل قلوبهم! وهم يريدون أن يظلوا على الشرك صامدين!{للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}..كانت آخر آية في الدرس السابق: {والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط المستقيم} فهنا يبين عن قواعد الجزاء للمهتدين ولغير المهتدين. ويكشف عن رحمة الله وفضله، وعن قسطه وعدله في جزاء هؤلاء وهؤلاء.فأما الذين أحسنوا. أحسنوا الاعتقاد، وأحسنوا العمل، وأحسنوا معرفة الصراط المستقيم، وإدراك القانون الكوني المؤدي إلى دار السلام.. فأما هؤلاء فلهم الحسنى جزاء ما أحسنوا، وعليها زيادة من فضل الله غير محدودة: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}.وهم ناجون من كربات يوم الحشر، ومن أهوال الموقف قبل أن يفصل في أمر الخلق: {ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة}.والقتر: الغبار والسواد وكدرة اللون من الحزن أو الضيق. والذلة: الانكسار والمهانة أو الإهانة. فلا يغشى وجوههم قتر ولا تكسو ملامحهم الذلة.. والتعبير يوحي بأن في الموقف من الزحام والهول والكرب والخوف والمهانة ما يخلع آثاره على الوجوه، فالنجاة من هذا كله غنيمة، وفضل من الله يضاف إلى الجزاء المزيد فيه.: {أولئك}.. أصحاب هذه المنزلة العالية البعيدة الآفاق: {أصحاب الجنة} وملاكها ورفاقها: {هم فيها خالدون}.{والذين كسبوا السيئات}..فكانت هي الربح الذي خرجوا به من صفقة الحياة! هؤلاء ينالهم عدل الله، فلا يضاعف لهم الجزاء، ولا يزاد عليهم السوء. ولكن: {جزاء سيئة بمثلها}.: {وترهقهم ذلة}..تغشاهم وتركبهم وتكربهم: {ما لهم من الله من عاصم}..يعصمهم ويمنعهم من المصير المحتوم، نفاذًا لسنة الله الكونية فيمن يحيد عن الطريق، ويخالف الناموس..ثم يرسم السياق صورة حسية للظلام النفسي والكدرة التي تغشى وجه المكروب المأخوذ المرعوب: {كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا}.. كأنما أخذ من الليل المظلم فقطع رقعًا غشيت بها هذه الوجوه! وهكذا يغشى الجو كله ظلام من ظلام الليل المظلم ورهبة من رهبته، تبدو فيه هذه الوجوه ملفعة بأغشية من هذا الليل البهيم..{أولئك}.. المبعدون في هذا الظلام والقتام: {أصحاب النار}.. ملاكها ورفاقها: {هم فيها خالدون}. ولكن أين الشركاء والشفعاء؟ وكيف لم يعصموهم من دون الله؟ هذه هي قصتهم في يوم الحشر العصيب: {ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون}.. هذه هي قصة الشفعاء والشركاء في مشهد من مشاهد القيامة، مشهد حي أبلغ من الإخبار المجرد بأن الشركاء والشفعاء لن يعصموا عبادهم من الله، ولن يملكوا لهم خلاصًا ولا نجاة.هؤلاء هم محشورون جميعًا.. الكفار والشركاء.. وهم كانوا يزعمونهم شركاء لله، ولكن القرآن يسميهم: {شركاءهم} تهكمًا من وجهة، وإشارة إلى أنهم من صنعهم هم ولم يكونوا يومًا شركاء لله.هؤلاء هم جميعًا كفارًا وشركاء. يصدر إليهم الأمر: {مكانكم أنتم وشركاؤكم}..قفوا حيث أنتم. ولابد أن يكونوا قد تسمروا في أماكنهم! فالأمر يومئذ للنفاذ. ثم فرق بينهم وبين شركائهم وحجز بينهما في الموقف: {فزيلنا بينهم}..وعندئذ لا يتكلم الذين كفروا ولكن يتكلم الشركاء يتكلمون ليبرئوا أنفسهم من الجريمة. جريمة أن عبدهم هؤلاء الكفار مع الله، أو من دون الله، وإعلان أنهم لم يعلموا بعبادتهم إياهم ولم يشعروا، فهم إذن لم يشتركوا في الجناية، ويشهدون الله وحده على ما يقولون: {وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين}.. هؤلاء هم الشركاء الذين كانوا يعبدون. هؤلاء هم ضعاف يطلبون البراءة من إثم أتباعهم. ويجعلون الله وحده شهيدًا، ويطلبون النجاة من إثم لم يشاركوا فيه!عندئذ، وفي هذا الموقف المكشوف، تختبر كل نفس ما أسلفت من عمل، وتدرك عاقبته إدراك الخبرة والتجربة: {هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت}.. وهنالك يتكشف الموقف عن رب واحد حق يرجع إليه الجميع، وما عداه باطل: {وردوا إلى الله مولاهم الحق}..وهنالك لا يجد المشركون شيئًا من دعاويهم ومزاعمهم وآلهتهم، فكله شرد عنهم ولم يعد له وجود: {وضل عنهم ما كانوا يفترون}.. وهكذا يتجلى المشهد الحي، في ساحة الحشر، بكل حقائقه، وبكل وقائعه، وبكل مؤثراته واستجاباته. تعرضه تلك الكلمات القلائل، فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الإخبار المجرد، ولا براهين الجدل الطويل!ومن جولة الحشر الذي تسقط فيه الدعاوى والأباطيل، ويتجلى فيه أن المولى هو الله المهيمن على الموقف وما فيه. إلى جولة في واقعهم الذي يعيشون فيه، وإلى أنفسهم التي يعلمونها، وإلى المشاهد التي يرونها في الحياة. بل إلى اعترافهم هم أنفسهم بأنها من أمر الله ومن خلق الله: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون}..ولقد مر أن مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله، ولا أنه الخالق، والرازق، والمدبر. إنما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى، أو يعتقدون أن لهم قدرة إلى جانب قدرة الله. فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه هم أنفسهم، ليصحح لهم- عن طريق إيقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري- ذلك الخلط والضلال.{قل من يرزقكم من السماء والأرض}..من المطر الذي يحيي الأرض وينبت الزرع، ومن طعام الأرض نباتها وطيرها وأسماكها وحيوانها، ثم سائر ما كانوا يحصلون عليه من الأرض لهم ولأنعامهم. وذلك بطبيعة الحال ما كانوا يدركونه حينذاك من رزق السماء والأرض. وهو أوسع من ذلك بكثير. وما يزال البشر يكشفون كلما اهتدوا إلى نواميس الكون عن رزق بعد رزق في السماء والأرض، يستخدمونه أحيانًا في الخير ويستخدمونه أحيانًا في الشر حسبما تسلم عقادهم أو تعتل. وكله من رزق الله المسخر للإنسان. فمن سطح الأرض أرزاق ومن جوفها أرزاق. ومن سطح الماء أرزاق ومن أعماقه أرزاق. ومن أشعة الشمس أرزاق ومن ضوء القمر أرزاق. حتى عفن الأرض كشف فيه عن دواء وترياق!
|